الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ومما يدل عليه أيضًا أن هذه اللذات سريعة الاستحالة سريعة الزوال سريعة الانقضاء.فثبت بهذه الوجوه الكثيرة خساسة هذه اللذات.وأما السعادات الروحانية فإنها سعادات شريفة عالية باقية مقدسة، ولذلك فإن جميع الخلق إذا تخيلوا في الإنسان كثرة العلم وشدة الانقباض عن اللذات الجسمانية، فإنهم بالطبع يعظمونه ويخدمونه ويعدون أنفسهم عبيدًا لذلك الإنسان وأشقياء بالنسبة إليه، وذلك يدل على شهادة الفطرة الأصلية بخساسة اللذات الجسمانية، وكمال مرتبة اللذات الروحانية.الوجه الثاني: في بيان أن خيرات الآخرة أفضل من خيرات الدنيا، وهو أن نقول: هب أن هذين النوعين تشاركا في الفضل والمنقبة، إلا أن الوصول إلى الخيرات الموعودة في غد القيامة معلوم قطعًا.وأما الوصول إلى الخيرات الموعودة في غد الدنيا فغير معلوم بل ولا مظنون، فكم من سلطان قاهر في بكرة اليوم صار تحت التراب في آخر ذلك اليوم، وكم من أمير كبير أصبح في الملك والإمارة، ثم أمسى أسيرًا حقيرًا، وهذا التفاوت أيضًا يوجب المباينة بين النوعين.الوجه الثالث: هب أنه وجد الإنسان بعد هذا اليوم يومًا آخر في الدنيا، إلا أنه لا يدري هل يمكنه الانتفاع بما جمعه من الأموال والطيبات واللذات أم لا؟ أما كل ما جمعه من موجبات السعادات، فإنه يعلم قطعًا أنه ينتفع به في الدار الآخرة.الوجه الرابع: هب أنه ينتفع بها إلا أن انتفاعه بخيرات الدنيا لا يكون خاليًا عن شوائب المكروهات، وممازجة المحرمات المخوفات.ولذلك قيل: من طلب ما لم يخلق أتعب نفسه ولم يرزق.فقيل: وما هو يا رسول الله؟ قال: «سرور يوم بتمامه».الوجه الخامس: هب أنه ينتفع بتلك الأموال والطيبات في الغد، إلا أن تلك المنافع منقرضة ذاهبة باطلة، وكلما كانت تلك المنافع أقوى وألذ وأكمل وأفضل كانت الأحزان الحاصلة عند انقراضها وانقضائها أقوى وأكمل كما قال الشاعر المتنبي:أشد الغم عندي في سرور.. تيقن عنه صاحبه انتقالا فثبت بما ذكرنا أن سعادات الدنيا وخيراتها موصوفة بهذه العيوب العظيمة، والنقصانات الكاملة وسعادات الآخرة مبرأة عنها، فوجب القطع بأن الآخرة أكمل وأفضل وأبقى وأتقى وأحرى وأولى. اهـ.
وقال آخر: وقيل: المعنى متاعُ الحياة الدنيا لعبٌ ولهوٌ؛ أي الذي يشتهونه في الدنيا لا عاقبة له، فهو بمنزلة اللعب واللهو.ونظر سليمان بن عبدالملك في المرآة فقال: أنا الملك الشاب؛ فقالت له جارية له: وقيل: معنى {لَعِبٌ وَلَهْوٌ} باطل وغرور، كما قال: {وَما الحياة الدنيا إِلاَّ مَتَاعُ الغرور} [آل عمران: 185] فالمقصد بالآية تكذيب الكفّار في قولهم: {إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا}.واللعب معروف، والتَّلْعابة الكثير اللعب، والمَلْعَب مكان اللعب؛ يقال: لَعِب يَلْعَب.والّلهو أيضًا معروف، وكل ما شَغَلك فقد ألهَاك، ولَهَوت من اللهو، وقيل: أصله الصّرف عن الشيء؛ من قولهم: لَهَيتُ عنه؛ قال المهدوي: وفيه بُعدٌ؛ لأن الذي معناه الصّرف لامه ياء بدليل قولهم: لهْيَانُ، ولام الأول واو.فصل:ليس من اللّهو واللّعب ما كان من أمور الآخرة.فإن حقيقة اللّعب ما لا ينتفع به واللّهو ما يُلتهى به، وما كان مرادًا للآخرة خارج عنهما؛ وذمّ رجل الدنيا عند علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال علي: الدنيا دار صدق لمن صَدَقها، ودار نجاة لمن فهِم عنها، ودار غِنىً لمن تزود منها.وقال محمود الورّاق: وروى أبو عمر بن عبدالبر عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الدنيا ملعونةٌ ملعونٌ ما فيها إلا ما كان فيها من ذكر الله أَو أَدَّى إلى ذكر الله والعالم والمتعلم شريكان في الأجر وسائر الناسَ هَمَجٌ لا خير فيه» وأخرجه التّرمذي عن أبي هُريرة وقال: حديث حسن غريب.وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من هَوَان الدُّنيا على الله أَلاَ يُعصَى إلا فيها ولا يُنالُ ما عنده إلا بتركها» وروى التَّرمذي عن سَهْل بن سعد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو كانت الدنيا تَعدِل عند الله جناحَ بَعوضة ما سَقَى كافِرًا منها شَرْبةَ ماء».وقال الشاعر: وقال ابن عباس: هذه حياة الكافر لأنه يُزَجِّيها في غرور وباطل، فأما حياة المؤمن فتنطوي على أعمال صالحة، فلا تكون لهوًا ولعبًا. اهـ. بتصرف يسير.
صح، واللهو واللعب على ما في درة التنزيل يشتركان في أنهما الاشتغال بما لا يعني العاقل ويهمه من هوى وطرب سواء كان حرامًا أو لا؛ وفرق بينهما بأن اللعب ما قصد به تعجيل المسرة والاسترواح به واللهو كل ما شغل من هوى وطرب وإن لم يقصد به ذلك، وإذا أطلق اللهو فهو على ما قيل اجتلاب المسرة بالنساء كما في قوله: وقال قتادة: اللهو في لغة اليمن المرأة، وقيل: اللعب طلب المسرة والفرح بما لا يحسن أن يطلب به واللهو صرف الهم بما لا يصلح أن يصرف به، وقيل: إن كل شغل أقبل عليه لزم الإعراض عن كل ما سواه لأن من لا يشغله شأن عن شأن هو الله تعالى فإذا أقبل على الباطل لزم الإعراض عن الحق فالإقبال على الباطل لعب والإعراض عن الحق لهو، وقيل: العاقل المشتغل بشيء لابد له من ترجيحه وتقديمه على غيره فإن قدمه من غير ترك للآخر فلعب وإن تركه ونسيه به فهو لهو، وقد بين صاحب الدرة بعد أن سرد هذه الأقوال سر تقديم اللعب على اللهو حيث جمعا كما هنا وتأخيره عنه كما في العنكبوت بأنه لما كان هذا الكلام مسوقًا للرد على الكفرة فيما يزعمونه من إنكار الآخرة والحصر السابق وليس في اعتقادهم لجهلهم إلا ما عجل من المسرة بزخرف الدنيا الفانية قدم اللعب الدال على ذلك وتمم باللهو أو لما طلبوا الفرح بها وكان مطمح نظرهم وصرف الهم لازم وتابع له قدم ما قدم أو لما أقبلوا على الباطل في أكثر أقوالهم وأفعالهم قدم ما يدل على ذلك أو لما كان التقديم مقدمًا على الترك والنسيان قدم اللعب على اللهو رعاية للترتيب الخارجي، وأما في العنكبوت فالمقام لذكر قصر مدة الحياة الدنيا بالقياس إلى الآخرة وتحقيرها بالنسبة إليها ولذا ذكر اسم الإشارة المشعر بالتحقير وعقب ذلك بقوله سبحانه وتعالى: {إن الدار الآخرة لَهِىَ الحيوان} [العنكبوت: 46] والاشتغال باللهو مما يقصر به الزمان وهو أدخل من اللعب فيه، وأيام السرور فصار كما قال: وينزل على هذا الوجوه في الفرق، وتفصيله في الدرة قاله مولانا شهاب الدين فليفهم.{وَلَلدَّارُ الآخرة} التي هي محل الحياة الأخرى {خَيْرٌ لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ} الكفر والمعاصي لخلوص منافعها عن المضار والآلام وسلامة لذاتها عن الانصرام {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} ذلك حتى تتقوا ما أنتم عليه من الكفر والعصيان، والفاء للعطف على محذوف أي أتغفلون (أو ألا تتفكرون فلا تعقلون)، وكان الظاهر أن يقال كما قال الطيبي وما الدار الآخرة إلا جد وحق لمكان {وَمَا الحياة الدنيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ} إلا أنه وضع {خَيْرٌ لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ} موضع ذلك إقامة للمسبب مقام السبب، وقال في الكشف: إن في ذلك دليلًا على أن ما عدا أعمال المتقين لعب ولهو لأنه لما جعل الدار الآخرة في مقابلة الحياة الدنيا وحكم على الأعمال المقابل بأنها لعب ولهو علم تقابل العملين حسب تقابل ما أضيفا إليه أعني الدنيا والآخرة فإذا خص الخيرية بالمتقين لزم منه أن ما عدا أعمالهم ليس من أعمال الآخرة في شيء فهو لعب ولهو لا يعقب منفعة. اهـ.
|